أوّل إنجليزيّ يدعو إلى الاستيطان في فلسطين | أرشيف

رسم متخيّل لهنري فنش، لندن، القرن السابع عشر

 

العنوان الأصليّ: «الصهيونيّة غير اليهوديّة: أوّل إنجليزيّ يدعو إلى الاستيطان في فلسطين».

المصدر: «مجلّة العربيّ».

الكاتب: نبيل إبراهيم مطر.

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1989.

 


 

من الشائع أنّ الدعوة الصهيونيّة بدأت على أيدي بعض اليهود في القرن الثامن عشر، لكنّ البحث العلميّ يؤكّد أنّ غير اليهود من الأوروبّيّين كانت لهم المبادرة، مثل هنري فنش، الإنجليزيّ الّذي كان يحلم لوطنه إنجلترا بسيطرة كاملة على وطننا العربيّ؛ فكانت دعوته اليهود إلى استيطان فلسطين.

يظنّ كثيرون أنّ فكرة استيطان اليهود في أرض فلسطين تعود إلى «وعد بلفور» عام 1917، ورغم أنّ الرسالة الّتي وجهها اللورد بلفور إلى الثريّ اليهوديّ روتشيلد في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام كانت أوّل وثيقة حكوميّة تؤكّد لليهود دعم الإمبراطوريّة البريطانيّة للاستعمار [الصهيونيّ] في فلسطين، إلّا أنّ المخطّط نفسه لم يكن وليد ساعته، وأنّ مشروع استيطان فلسطين من قبل اليهود يعود إلى ثلاثة قرون مضت، حين ظهر في لندن أوّل كتاب عن هذا الموضوع عام 1621.

كان عنوان الكتاب الّذي ظهر عام 1621: «الإحياء العظيم للعالم»، أو «دعوة اليهود»، بقلم هنري فنش (1558 – 1625). وُلِدَ فنش لعائلة سياسيّة، وبدأ تعليمه الجامعيّ في «جامعة كامبريدج»، حيث نال شهادة البكالوريوس عام 1576، ثمّ انضمّ إلى «كلّيّة المحاماة» في لندن. وبعد أن أنهى دراسته، انْتُخِبَ عضوًا في البرلمان. تعاون فنش مع اللورد فرانسيس بيكون في محاولة فاشلة لجمع قوانين المملكة وتصنيفها. وفي عام 1621، أنهى كتابه عن اليهود، ووجد نفسه في مأزق أدّى إلى اعتقاله؛ حيث كانت دعوته لليهود إلى استيطان أرض فلسطين وإقامة إمبراطوريّة تطغى على كلّ الممالك في العالم، لا تتناسب وآراء جيمس الأوّل، الّذي رأى في فنش داعية إلى الثورة على حكم عائلة ستيورات.

حين وجد فنش أنّ كتابه سيؤدّي به إلى السجن، تراجع عن أجزاء الكتاب الّتي أزعجت الملك وشجبها علنًا، لكنّ الملك لم يكتفِ بهذا؛ فأمر بجمع نسخ الكتاب وحرقها، وطلب من أحد المقرّبين منه أن يهاجم الكتاب وموضوعه. وفي تمّوز من العام نفسه، 1621، قام وليام لود، الّذي أصبح في ما بعد رئيس أساقفة كانتربري، بانتقاد قاسٍ لفنش ودعوته اليهود إلى إقامة مملكة على أرض فلسطين. وأصبح الكتاب نادرًا جدًّا ولا توجد منه اليوم إلّا نسخ قليلة، أحدها في «مكتبة المتحف البريطانيّ» في لندن.

افْتَتَحَ فنش كتابه بإهداء "إلى أبناء يعقوب المشتّتين في أقاصي الأرض. أكتب لكم هذا حيثما تكونون. إنّه بريق من جوهرة. عن عودتكم واستجدادكم في مملكة عظيمة". وبعد هذا، انتقل فنش إلى تحليل دقيق للنبوءات اليهوديّة الّتي كُتِبَتْ في القرن السادس قبل الميلاد، والّتي وصفت لليهود استيطانهم القدس وفلسطين؛ فقد كان اليهود فد سُبُوا من أرض فلسطين إلى الإمبراطوريّة البابليّة عام 586 قبل الميلاد على يد الإمبراطور نبوخذ نصر.

خلال فترة السبي تلك، ظهر في تاريخهم عدد من الأنبياء الّذين وعدوا اليهود أنّ إلههم ’يهوه‘ سيعيدهم إلى أرض فلسطين، وقد تمّت العودة عام 537 قبل الميلاد على يد الإمبراطور قورش الفارسيّ الّذي عَطَفَ عيهم، ولا يزال اليهود حتّى يومنا هذا يحتفلون كلّ عام بعيد عودتهم، ويذكرون صداقة الفرس لهم.

 

نبوءات اليهود وشهوة الاستعمار

أراد فنش أن يطبّق هذه النبوءات على زمنه، ورغم أنّ هذه النبوءات تخصّ يهود القرن السادس قبل الميلاديّ، فقد أصرّ فنش على أن يطبّقها على يهود القرن السابع عشر الميلاديّ. ومع أنّه لم يكن يهوديًّا، ولم يعرف يهودًا؛ فقد كانت إنجلترا قد طردت اليهود من المملكة في القرن الثالث عشر، ومع ذلك، أراد لليهود استيطان فلسطين. وهنا تكمن بعض الغرابة في رجل ينادي شعبًا لا يعرفه إلى استعمار بلد لا يعرفه، وطرد شعب لا يعرفه، لإقامة إمبراطوريّة عالميّة يهوديّة تسيطر على كلّ ممالك الأرض. لماذا نادى فنش بكلّ هذا؟

السبب الرئيسيّ الّذي دفعه في ذلك الزمان البعيد لدعوة اليهود إلى استعمار فلسطين، هو نفسه الّذي دفع باللورد بلفور لإصدار وعده المشؤوم، ألا وهو محاولة بريطانيا إيجاد دولة في وسط العالم العربيّ والإسلاميّ لتساعدها على السيطرة والاستعمار. ذلك أنّه إذا نظرنا إلى القرن السادس عشر، وبداية السابع عشر، نجد أنّ بريطانيا كانت تقف مرتعبة أمام القوّة العثمانيّة الإسلاميّة؛ فالقرن السادس عشر شَهِدَ أعظم انتصارات العثمانيّين، ووصول جيوشهم حدود النمسا، وسيطرتهم على جميع جزر البحر المتوسّط. أمام هذه القوّة العسكريّة والدينيّة، وجدت بريطانيا نفسها تتساءل عن كيفيّة مواجهة الخطر العثمانيّ، ذلك أنّ المحاولات الأوروبّيّة كانت قد باءت بالفشل.

رأى فنش الخطر العثمانيّ أمامه، وقدّر أنّ بلده لن تستطيع الدفاع عن نفسها؛ فبدأ بقراءة النبوءات اليهوديّة باحثًا عن مخرج لهذا المأزق الدوليّ، وعن وسيلة لإزالة الخطر العثمانيّ. وما كان إلّا أن وجد نبوءات العودة إلى فلسطين، فقال إنّ فلسطين اليوم لا يسكنها اليهود، بل عرب وأتراك، مسلمون ومسيحيّون، لذا؛ فإنّ اليهود حسب نبوءاتهم، لا محالة عائدون بمساعدة إلههم ’يهوه‘، وإذا عادوا، فلا محالة سيحاربون الأتراك في المشرق وينتصرون عليهم. لذا، إذا استوطن اليهود فلسطين، فذلك سيكون بعد التغلّب على العثمانيّين وإزالتهم من الوجود، أي بعد إنهاء الخطر العثمانيّ والإسلاميّ. عندها سيكون هناك شعب يهوديّ في فلسطين، ولن يشكّل خطرًا على أوروبّا، بل سيؤازر بريطانيا، لأنّها ستكون الإمبراطوريّة الّتي ستساعد اليهود على هذا الاستيطان.

من الواضح أنّ فنش أراد استيطان اليهود في فلسطين لا محبّة بهم، بل خوفًا من العثمانيّين؛ فالمعركة ستكون ضارية بين الأتراك المسلمين واليهود، لكنّها ستنتهي بالتغلّب على الأتراك. كتب شعرًا: "سيعودون (اليهود) إلى أرضهم/ سينضب نهر الفرات أمامهم/ ليجعل طريقهم سالكة، مثلما فُتِحَ أمامهم من قبل البحر الأحمر/ سَتُرْعِبُ أخبار تقدّمهم القوى التركيّة/ سيحدث اقتتال عظيم بينهم وبين الأتراك/ وسيكون هذا الاقتتال في أرضهم/ أرض يهودا/ وسينالون انتصارًا نبيلًا/ وسيتلقّى العثمانيّون ضربة موجعة قرب مدينة القدس/ وسيكون انتصار اليهود الكبير على الجيش التركيّ، قرب بحيرة طبريّا/ وسيسكنون بعد ذلك بلادهم...".

 

أفكار خاطئة واجتهادات مجانين 

من الغريب أنّ فنش استعمل دائمًا كلمة ’بلادهم‘ في إشارته إلى فلسطين، كأنّ فلسطين لم تكن في القرن السابع عشر بلاد العرب الّذين سكنوها لأجيال وأجيال، بل بلاد اليهود. لكنّ فنش أصرّ على استيطان اليهود، وعلى استيطان حقيقيّ وبكلّ معنى الكلمة، وأضاف، وهذه كانت الإضافة الّتي أودت به إلى السجن: "سيأتون قريبًا إلى القدس، وسيصبحون ملوك ورؤساء العالم، ويحكمون الجميع".

حاول فنش أن يحدّد الوقت الّذي ستتحقّق فيه كلّ هذه الآمال، فَحَسَبَ أنّ القوّة التركيّة ستبدأ بالانحلال عام 1650، وستنتهي عام 1695 بعد ذلك. واعتقد أنّ اليهود سيعيدون بناء مدينة القدس، ويعيدون بناء إمبراطوريّة داوود. ومن ثمّ كانت استعانته بالنبوءات اليهوديّة، فقال: "إنّ أرض فلسطين ستثمر بعد الاحتلال اليهوديّ، وسيكثر فيها اليهود، وستحلّ فيها السعادة والرخاء، وستصل حدودها إلى أبعد ما كانت عليه من قبل، وستخضع جميع الشعوب المجاورة للمملكة اليهوديّة، وأمّا الرافضون، فسيُقْضَى عليهم، وسيبدأ زمن جديد في التاريخ البشريّ. وبهذا يزول الخطر التركيّ عن بريطانيا، ويحلّ محلّه حليف أبديّ".

كما ذكرنا، استاء الملك جيمس من كتاب فنش، وطلب من لود مهاجمته، وتناول لود الموضوع في عظة بمناسبة عيد ميلاد الملك؛ فنبّه إلى أنّ أفكار فنش عن دولة يهوديّة في فلسطين، وعن استيطان اليهود في القدس وبناء المعبد وما إلى ذلك من ظواهر الاستعمار، ما هي إلّا أفكار ترفضها تمامًا المعتقدات الدينيّة، وما هي إلّا أخطاء يهوديّة واجتهادات رجال مجانين.

ورغم أنّ فنش تنصّل من دعوته، إلّا أنّ فكرته وجدت العديد من الكتّاب والشعراء الّذي أقبلوا عليها، والعديد الآخر ممّن رفضها بشدّة، وابتدأ بين هذين الفريقين جدل طويل ومتشعّب امتدّ من أوائل القرن السابع عشر حتّى القرن العشرين، انتهى بانتصار الكتّاب الّذين آزروا فكرة فنش، وقيام ’كيان الدولة‘ الّتي زُرِعَتْ في فلسطين.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.